الشيخ:مصطفى حسنى
***
هو أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" كرّم الله وجهه، ابن عم النبي وصفيه ووزيره وحبيبه وزوج ابنته "فاطمة" الزهراء، ولد "علي بن أبي طالب" في جوف الكعبة، ونشأ في كنف والديه. وبعد سنوات من ولادته المباركة تعرضت قريش لأزمة اقتصادية خانقة كانت وطأتها شديدة على "أبي طالب" إذ كان رجلاً ذا عيال كثيرة، فاقترح النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ عليا ليخفّف العبء عن "أبي طالب"، وكان عمره حينئذ ست سنوات. فنشأ في دار النبوة ومهبط الوحي، ليكون أول تلميذ في المدرسة المحمدية الشريفة.
ولأن حياته ومناقبه أكبر من أن نحصيها أو نتكلم عنها سيكون حديثنا عنه على ثلاث حلقات متصلة حديثَ تعريف وتشريف، فنتعرف على قطرة من بحره، ونتشرف بجميل ذكره كرم الله وجهه.
إسلام "علي"
دخل سيدنا "علي" ذات يوم وهو ما زال في مرحلة الطفولة على النبي (صلى الله عليه وسلم) هو وزوجته السيدة "خديجة" فأخبره أنه أصبح نبيا يتنزل عليه الوحي، وحكى له قصة الإسلام، وهنا تبرز روايتان لهذه القصة، الرواية الأولى تشير إلى أن سيدنا "علي" طلب من النبي أن يستأذن أباه قبل أن يدخل الإسلام ولكن النبي رفض وأخبره أن عليه الكتمان، ثم أسلم بعدها وهو على ثقة بأن النبي لا يأمره إلا بالخير. وتؤكد الرواية الثانية أن سيدنا "علي" استسمح النبي في أن يذهب ليستأذن أباه "أبا طالب" عم النبي، فقال له "أبو طالب": "يا بني ما كان محمد أن يأمرك إلا بخير".
وتبدأ الدعوة السرية وتستمر لمدة 3 سنوات كاملة ويجلس النبي في دار "الأرقم بن أبي الأرقم"، ويبدأ كلام النبي يصل سرا إلى مسامع أهل مكة الذين بدورهم بدأوا يسألون عنه ليستمعوا مباشرة إلى كلامه ويعلنوا إسلامهم بين يديه، فكان سيدنا "علي" -وعمره وقتها عشر سنوات- يقف عند الكعبة، وعندما يسأله أحد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقوده سرا إلى دار "الأرقم" وسط الجبال وكأنه أحد رجال المخابرات السرية.. حتى يوصلهم إلى رحاب النبي ليعتنقوا الإسلام وليقفوا خاشعين على باب الواحد الأحد.
ويبدأ الناس في دخول الإسلام وكان همزة الوصل وصاحب اليد الممدودة بالخير لكل من يبحث عن الخير هو "علي" الذي خاطر بهذا العمل وسط مراقبة قريش لكل من يبحث عن النبي أو يسأل عنه أو يساعد في إيصال دعوته إلى الناس. وهكذا نرى شجاعته وإخلاصه وصدقه في صباه تمتد لتشمل كل جوانب حياته الشريفة من بدئها لنهايتها.
روحه فداء للنبي
وتمر السنون ويكبر سيدنا "علي" وتبدأ الدعوة الجهرية للنبي صلى الله عليه وسلم. ويأتي الأمر للنبي بالهجرة إلى المدينة، ويوحي الله للنبي بأن يجعل سيدنا "عليا" في فراشه ليلة الهجرة من أجل إعادة الأمانات إلى أصحابها. وبالفعل ينام سيدنا "علي" في فراش المصطفى ولسان حاله يقول: فداك روحي يا رسول الله، فعلا لا قولا وصدقا لا كذبا. فلا عجب بعد ذلك أن يشرفه الله بزواجه من السيدة "فاطمة" بنت رسول الله بعد غزوة بدر، بعد أن ضرب أروع الأمثال في الإيمان بالله والتضحية في سبيله.. إنه فتى الفتيان "علي".
لمحات من شجاعة الإمام
يعد سيدنا "علي" كرم الله وجهه أشجع الخلق بعد رسول الله، ولا يمكن أن توصف الشجاعة بأكثر من أنه ما مثل بجثة أحد صرعه، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا فرَّ قطّ، ولا ضرب ضربة فاحتاج إلى ثانية، وكان يقول كرم الله وجهه: "ما بارزت أحدا إلا وكنت أنا ونفسه عليه".. ولأن مواقفه الشجاعة لا يحدها حد فما لنا إلا أن نقف على ساحل بحر شجاعته لنذكر بعضا منها.
ولعل أشهرها موقفه يوم الخندق، عندما لم يتمكن المشركون من عبور الخندق إلا ثلاثة منهم وعلى رأسهم الفارس "عمرو بن عبد ود"، وهو أحد الرجال الذين يخشى أعتى الفرسان مواجهتهم. وقف "عمرو" ليعلن عن نفسه وليتحدى جموع المسلمين قائلا: "هل من مبارز"؟ فأخذ الصحابة ينظر بعضهم إلى بعض وينظرون للنبي، وتذكر الروايات أن النبي قالها ثلاث مرات: "أيكم يبرز إلى "عمرو" وأضمن له على الله الجنة؟" وفي كل مرّة كان يقوم "علي" رضي الله عنه ولا يقوم غيره.
لقد وثب إليه أمير المؤمنين كرم الله وجهه فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: "يا "علي" هذا "عمرو بن عبد ود"، قال علي: وأنا "علي بن أبي طالب"، فقال له رسول الله: ادنُ مني فدنا منه فعمّمه بيده ودفع إليه ذا الفقار (سيف النبي) وقال: اذهب وقاتل بهذا، وقال: اللهمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته". فمر أمير المؤمنين يهرول وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نـيّة وبصيرة والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزائز
قال "عمرو": ومن أنت؟ قال: أنا "علي بن أبي طالب" ابن عم رسول الله، فقال: والله إن أباك كان لي صديقاً وإني أكره أن أقتلك ما آمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا فأتركك بين السماء والأرض لا حيا ولا ميتا، فقال له أمير المؤمنين "علي": قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة، فقال "عمرو": كلتاهما لك يا "علي"، فقال له: دع عنك هذا يا "عمرو" أنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة! فقال: هات يا "علي"، فقال: الأولى: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: نحِّ عني هذا، قال فالثانية: أن ترجع وترد هذا الجيش عن رسول الله فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً وإن يك كاذباً كفاكم العرب أمره، فقال: إذن تتحدث نساء العرب بذلك وتنشد الشعراء بأشعارها أني جبنت عن الحرب ورجعت على عقبي وخذلت قوماً رأسوني عليهم، فقال له أمير المؤمنين: فالثالثة: أن تنزل إليّ فإنك راكب وأنا راجل حتى أواجهك، فوثب عن فرسه وقال: هذه خصلة ما ظننت أحداً من العرب يسومني عليها.
وبدأ النزال وثار الغبار وظن بعض المؤمنين والكافرين على السواء أن "عليا" قد قُتِل، إلا أن صيحة الله أكبر علت عندما برز "علي" كرم الله وجهه بعد أن انكشف الغبار وقد هزم ذلك المتجبر الذي تجرأ على الله ورسوله.. وأخذ يقول: "أنا علي وابن عبد المطلب الموت خير للفتى من الهرب".
نعم يا أشجع الخلق بعد رسول الله، فما وليت يوم زحف أبدا، وما ضعفت وما وهنت يوما. فها هم اليهود يتحصنون بحصون خيبر، فتأبى الحصون أن تفتح إلا على يديك، رغم شجاعة وكرامة من حاولا قبلك، "الصديق" و"الفاروق" رضي الله عنهما. وكما جاء في كثير من الروايات أن المسلمين حاصروا خيبر، فأخذ "أبو بكر" اللواء إلا أنه لشدة تحصين اليهود كانوا يصيبون المسلمين دون أن ينال منهم المسلمون شيئا فعاد ولم يفتح له. ثم أخذه من الغد "عُمر"، فخرج ورجع ولم يفتح له، فأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: "لأدفعن الراية اليوم إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فتطاول القوم، فقال: أين "علي بن أبي طالب"، فقالوا: يشكي عينيه، فبصق نبي الله في كفيه، ومسح بهما عيني "علي"، ودفع إليه الراية، ففتح الله على يديه". ذلك أنه كما قيل فيه: "كرّار غير فرّار".. أي يدخل المعركة ولا يفر من ساحتها أبدا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وفي هذا قال "أبو رافع" مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خرجنا مع عليٍّ عليه السلام حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، برايته إلى خيبر، فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه يهودي فطرح ترسه من يده، فتناول علي رضي الله عنه باباً كان عند الحصن فجعل يحمي به نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتى فتح الله عليه". وقيل إن باب الحصن كان ضخما ورغم ذلك رمى به "علي بن أبي طالب" عليه السلام خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون بعده.
إننا نقف عاجزين ونحن نتحدث عن شجاعته أن نوفيه بعضا من حقه، فكم من حصون فتحها، ومعارك خاضها، ورايات في سبيل الله رفعها، وبين كل هذا كان كريما حليما ساجدا صادقا أمينا، رضي الله عنك وكرم الله وجهك يا سيدي وإمامي وقرة عين الصالحين.. يا أبا الحسنين سيدا شباب أهل الجنة، نفعنا بعلمك وحلمك وشجاعتك إلى يوم الدين.
***