لا نظير لأمر يستثير ويحفز مواهب الإنسان وطاقاته قدر المعاناة والتحديات المصاحبة للابتلاءات والفتن والضيق والنقص في الأموال والأنفس والثمرات وكلما ازدادت التحديات كلما قابل ذلك ارتفاع في استجابة الإنسان حتى يتمكن من التغلب على هذه التحديات والانتصار عليها لكن هناك بالطبع سقف لا تتخطاه قدرات الإنسان وطاقاته لذلك إذا ارتفعت التحديات فوق هذا السقف يكون الإحباط والانكسار والهزيمة في جانب الإنسان .
لذلك كان التيسير هو أحد العطاءات الإلهية التي تقدم العون للإنسان في معاركه مع تحديات الدهر وصروفه حثا له على اكتشاف مواهبه وقدراته وحماية له من الانكسار تحت وطأة هذه التحديات . لذلك يقول القرآن الكريم "إن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا" (الشرح 5-6 ) ونلاحظ هنا أن العسر جاء محلى بأداة التعريف "ال" في الآية الخامسة وكذلك في الآية السادسة في حين جاء اليسر بدون آداة التعريف هذه في الآيتين ، مما يعني أن العسر في الآية الخامسة هو ذاته العسر في الآية السادسة في حين أن اليسر في الآية السادسة هو غير اليسر في الآية الخامسة مما يعني أن العسر يصاحبه يسران لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "ولن يغلب العسر يسرين" كذلك يقول القرآن الكريم "سيجعل الله بعد عسرا يسرا " (الطلاق:7) مما يعني أن العسر يصاحبه يسران ويتلوه يسر فلكل عسر ثلاثة تيسيرات .
وحيث يختلف الناس في المواهب والقدرات والطاقات ولأن القرآن وهو الذكر الحكيم هو كتاب الله للمؤمنين فقد امتد إليه التيسير من لدن الحكيم الخبير لكي لا يحرم أحد من الأخذ بنصيبه من كلام الله لذلك يصرح الله في القرآن بأن:" ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" وتكررت هذه الآية اربع مرات في سورة القمر (القمر:17-22-32-40) ، القرآن ميسر للذكر ولا يبقى إلا من يريد التذكر . كذلك يقول لرسوله في القرآن : "فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين، وتنذر به قوما لدا" .( مريم: 79) ليس اليسر في البشرى فحسب بل في الإنذار للخصوم أيضا . وفي موضع آخر يعلن : " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" .( الدخان :97) لقد تيسر الذكر لمن يريد أن يتذكر .
ولا تغيب عن فطنة المؤمن أن روح الدين متشبعة باليسر والتيسير ، فبعد ما بينا التيسير في تلقي القرآن وفي المتلقي منه امتد التيسير إلى التكليف حيث يقول الحق تبارك وتعالى : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة:185) ، كما أن طريق الطاعة ممهد باليسر "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فنيسره لليسرى" (الليل:5-7) كما يجوز الطريق الآخر على الأمر نفسه : " وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى" (الليل:8-10) كذلك أحيطت الفرائض بسياج من التيسير فقد أعطى الله لعباده تيسيرات في أحوال المشقة سماها " الرخص " من مثل : إنه لا صيام في السفر وكذلك أباح القصر في الصلاة في السفر أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه " فالواجب أن يلجأ الإنسان إلى ما أعطي له من التيسير .
والتيسير واجب أيضا في التعامل بين البشر ويحض القرآن على ذلك ، فيطلب في الحالة التي يأتي إليك فيها أحد لم يقدر على أداء دين في موعده أن تمهله وتمد له في الأجل إلى الوقت الذي تنفرج فيه أحواله ويرتفع عنه الضيق فيقول " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " (البقرة : 280 ) أي إذا كان المدين معسرا لا يجد ما يوفي به دينه "فنظرة إلى ميسرة " والنظرة هي التأخير لحين الميسرة بمعنى اليسر ووجود المال ثم يردف ذلك قائلا "وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون " (البقرة : 280 ) أي أن تتصدقوا على المعسر بإسقاط الدين فهو خير من مطالبتكم في الحال ، وخير من أموالهم إلى أجل ممتد .
يحتضن التيسير الدين ويغلفه ويمتد ويسري داخله مثلما تجري الدماء داخل عروق بدن الإنسان لذلك فالبيان القرآني واضح في القول : "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ( الحج:78 ) ويقول : " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم " ( المائدة: 6) والحرج هو الضيق والشدة لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم هينا لينا وكان أشد الناس سماحة ويسرا وتيسيرا وأنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما وكان يعيب على المغالين وعلى المتشددين وعلى المتفيقهين ويأمر قائلا " بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا " وجاءه الناس في حجة الوداع منهم من يقول " حلقت قبل أن أذبح يا رسول الله " فيقول " لا حرج" ومنهم من يقول " نحرت قبل أن أرمي يا رسول الله " فيقول " لا حرج " وقد أوصل بعض الرواة أنه أجاب بلا حرج عن 24 سؤالا في تلك الحجة .
يقول المولى جل وعلا : " وإن تعفوا أقرب للتقوى ، ولا تنسوا الفضل بينكم " ( البقرة : 227 )